هل يمكن لطفل متبنّى، نشأ في أحد أفقر أحياء شيكاغو، وتعرض للإهمال والتنمر، أن يصبح واحدًا من أغنى وأقوى الرجال في العالم؟ قصة لاري إليسون هي الإجابة المدهشة على هذا السؤال. إنها حكاية نادرة عن التحدي والطموح والعزيمة التي لا تنكسر، حكاية رجل لم تمنعه الظروف القاسية ولا الفشل الأكاديمي من أن يضع بصمته في عالم التكنولوجيا، ويؤسس واحدة من أعظم شركات البرمجيات في التاريخ: شركة أوراكل.
في هذا المقال، نأخذك في رحلة مُلهمة بين محطات حياته، من الطفولة المعذّبة إلى قمة المجد والثراء، لنكتشف كيف صنع إليسون نفسه بنفسه، وكيف أصبح رمزًا للنجاح الذي لا يعترف بالمستحيل.
رحلة لاري إليسون من الفقر إلى مؤسس أوراكل وأحد أغنى رجال العالم
على الرغم من أن العائلة كانت الحلقة الأضعف في حياة لاري إليسون، حيث تخلت عنه والدته وهو لا يزال رضيعًا في مهده، ونشأ في بيئة قاسية تفتقر إلى الحنان والدعم، إلا أنه لم يستسلم للظروف الصعبة التي واجهته منذ ولادته، بل اختار أن يشق طريقه بعزيمة وإصرار حتى أصبح واحدًا من عمالقة التكنولوجيا في العالم، وضمن قائمة أغنى خمسة مليارديرات على وجه الأرض. إنه لاري إليسون، المؤسس العبقري لشركة "أوراكل" العملاقة، التي تُعد من أعمدة صناعة البرمجيات في العالم.
![]() |
لاري إليسون | من بدايات صعبة إلى قمة عالم التكنولوجيا |
وُلد لاري إليسون في السابع عشر من أغسطس عام 1944. كان والده ضابطًا طيارًا في القوات الجوية الأمريكية، كثير التنقل والسفر بسبب طبيعة عمله. وبعد ولادته بفترة قصيرة، أُصيب إليسون بالتهاب رئوي حاد، ما دفع والدته — التي لم تكن قادرة على رعايته أو توفير الرعاية اللازمة له — إلى اتخاذ قرار صعب ومؤلم، حيث عرضت ابنها على أحد أقاربهم في شيكاغو ليتبناه ويقوم بتربيته. وكان عمره حينها لا يتجاوز تسعة أشهر فقط.
نشأ إليسون في كنف عائلة متواضعة الحال، في أحد أكثر الأحياء فقرًا وسوءًا بمدينة شيكاغو، وهو حي يقطنه اليهود من أصحاب البشرة السمراء، والذين عانوا بدورهم من التهميش والتمييز. لم ينعم إليسون في طفولته برغد العيش أو دفء الأسرة، بل كان محاطًا بالحرمان والقيود الاجتماعية والمادية. وزادت معاناته سوءًا بسبب علاقته المتوترة بوالده بالتبني، الذي لم يكن حنونًا أو مشجعًا، بل اتسم بالقسوة والسخرية. كان دائم الانتقاد له، لا يتوانى عن وصفه بالفشل، ويقلل من شأن أحلامه وطموحاته باستمرار، ما ترك في نفسه أثرًا عميقًا.
- كانت طفولة لاري إليسون قاسية ومليئة بالتحديات النفسية والعاطفية، ما جعله يعيش في حالة دائمة من القلق والتوتر. ومع غياب الحنان الأسري والدعم العاطفي، لجأ إليسون إلى التعلم الذاتي والانعزال عن الآخرين، مفضّلًا قضاء وقته وحيدًا في القراءة والتأمل بدلًا من مخالطة الناس.
- هذا الانعزال لم يكن ضعفًا بل تحول إلى نقطة قوة؛ إذ أكسبه شجاعة داخلية، وزاد من اعتماده على نفسه، وساهم في تنمية قدراته الفكرية وتطوير ذاته بشكل مستقل.
- لم يكن أمامه خيارات كثيرة، فإما الاستسلام للواقع المرير، أو السعي بكل ما أوتي من قوة لتحقيق النجاح وتحويل أحلامه إلى حقيقة، وقد اختار الطريق الثاني دون تردد.
إخفاق جامعي قاد إلى النجاح | كيف تجاوز لاري إليسون التعليم التقليدي ليصنع مستقبله
بعد أن أنهى دراسته الثانوية في مدرسة "ساوث شور" عام 1962، التحق إليسون بجامعة "إلينوي في إربانا-شامبين"، حيث أظهر شغفًا بالعلم والدراسة. لكن ظروفه العائلية تدخلت من جديد، حيث اضطر إلى الانسحاب من الجامعة بعد تغيبه عن اختبارات السنة الثانية، وذلك بسبب وفاة والدته بالتبني، وهي التي كانت تمثّل له نوعًا من الاستقرار النسبي وسط محيطه القاسي.
لاحقًا، التحق إليسون بجامعة شيكاغو، وهناك ازداد اهتمامه بالفكر العلمي والفلسفي، إذ كان يحب تصور ماهيّة الأشياء والبحث عن الحقيقة الكامنة وراء المواد والجسيمات، إضافة إلى شغفه بالعلاقات الرياضية التي تحكم الكون. فاختار التخصص في الفيزياء والرياضيات، إلا أن دراسته الجامعية لم تكتمل مرة أخرى، حيث لم ينجح في إنهاء تعليمه الأكاديمي.
- وقد اعتقد الكثير من المحيطين به أن إخفاقه الجامعي يعود إلى ضعف الانتباه، وقلة التركيز، وعدم احترامه لأساتذته، غير مدركين أن تفكيره كان يسبق مرحلته الدراسية التقليدية، وأن ما بدا فشلًا في نظرهم كان في الحقيقة مقدّمة لطريق نجاح غير تقليدي.
- فرغم إخفاقه في إكمال تعليمه الجامعي، لم يكن ذلك عائقًا أمام طموحه الكبير، بل أصبح دافعًا أقوى للبحث عن ذاته خارج الإطار الأكاديمي، والسير في طريق مختلف أثبت فيه أن الشغف والإصرار قد يصنعان نجاحًا يفوق ما تحققه الشهادات.
- بدأ لاري إليسون، بعد انسحابه من التعليم الجامعي، في تعليم نفسه كل ما يتعلق ببرمجة الحاسوب. كان يقضي ساعات طويلة يومًا بعد يوم في قراءة الكتب التقنية، والتجريب العملي، والتفاعل مع الأكواد والبرمجيات المختلفة.
- ومع مرور الوقت، استطاع إتقان علم البرمجة، وفهم خفاياه وألغازه، حتى أصبح قادرًا على تنفيذ مهام برمجية صغيرة بشكل مستقل، وهو ما اعتبره وسيلة لتدريب نفسه وإعدادها لما هو أكبر في المستقبل.
لقد أدرك إليسون من خلال التعليم الذاتي حجم الإمكانات الكامنة في داخله، وبدأ يلمس قدراته الحقيقية التي لم تتح له الفرصة لإبرازها من قبل. كانت هذه القدرات بمثابة الوقود الذي أعاد إشعال طموحه، ودفعه مجددًا للسير بثقة على طريق النجاح، لكن هذه المرة بأسلوبه الخاص، وبمنهج مختلف عن الطرق التقليدية.
وفي إحدى المحطات المهمة في حياته، حصل إليسون على وظيفة في شركة "Ampex" المتخصصة في تكنولوجيا الإلكترونيات، وهناك بدأت رحلته الحقيقية كرائد أعمال في مجال التكنولوجيا. فقد كانت هذه الوظيفة بوابته الأولى نحو عالم البرمجيات المتقدم، حيث أتيحت له الفرصة لتطبيق ما تعلمه ذاتيًا، والانخراط في بيئة عملية سمحت له بالتطور والنمو، ومن هناك بدأت تتشكل ملامح حلمه الكبير، الذي سيغير وجه صناعة البرمجيات في العالم.
بداية المسيرة المهنية | كيف أسّس لاري إليسون شركة أوراكل العملاقة؟
في عام 1977، اتخذ لاري إليسون قرارًا مصيريًا غيّر مجرى حياته بالكامل، وهو الدخول رسميًا إلى عالم ريادة الأعمال. بالتعاون مع اثنين من زملائه، أسس إليسون شركة صغيرة تحمل اسم "مختبرات تطوير البرمجيات" (Software Development Laboratories)، وكان هدفهم الرئيسي هو تطوير حلول برمجية متقدمة في مجال قواعد البيانات.
- وسرعان ما حصل الفريق على عقد مهم من وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية (CIA) لتصميم نظام لإدارة قواعد البيانات، أطلقوا عليه اسم "Oracle" نسبةً إلى المشروع السري الذي طلبته الوكالة.
- في بداياتها، كانت الشركة تتكون من أقل من عشرة موظفين، ولم تتجاوز إيراداتها السنوية حاجز المليون دولار. لكن نقطة التحول الحقيقية جاءت في عام 1981، عندما قررت شركة IBM — عملاق التكنولوجيا آنذاك — اعتماد نظام "Oracle" في أنظمتها.
- هذا التعاون أدى إلى طفرة كبيرة في أداء الشركة، حيث بدأت الأرباح تتضاعف عامًا بعد عام. ومن هنا، قرر إليسون تغيير اسم الشركة رسميًا إلى "Oracle Corporation"، تيمنًا باسم النظام الذي أصبح حجر الأساس لنجاحها.
وفي عام 1986، وصلت شركة أوراكل إلى محطة فارقة في تاريخها، عندما تم طرحها للاكتتاب العام في سوق الأسهم. وقد شهد هذا الطرح نجاحًا كبيرًا، حيث بلغ سعر السهم نحو 15 دولارًا، ولم تمضِ فترة طويلة حتى ارتفع إلى ما يقرب من 20 دولارًا، ما جعل القيمة السوقية للشركة تقفز إلى حوالي 270 مليون دولار.
- وبنهاية عقد الثمانينيات، بلغت عائدات شركة أوراكل حوالي 130 مليون دولار، بينما بلغت حصة لاري إليسون وحده في الشركة ما يقارب 90 مليون دولار، ما جعله من أبرز الشخصيات الصاعدة في عالم التكنولوجيا.
- لكن النجاح لم يخلُ من التحديات، ففي عام 1988، واجهت شركة أوراكل أزمة حقيقية هددت سمعتها ومصداقيتها في سوق صناعة البرمجيات.
- فقد ظهرت مشاكل في بعض البرمجيات التي طُورت في تلك الفترة، حيث عجزت عن أداء المهام المطلوبة منها بشكل كامل، الأمر الذي وضع الشركة في موقف حرج، وأثار الكثير من التساؤلات حول جودة منتجاتها.
كيف أنقذ لاري إليسون شركة أوراكل من حافة الانهيار؟
وفي عام 1990، بدأت شركة أوراكل تواجه تحديات كبيرة في إدارتها المالية، حيث بدأت تفقد السيطرة على مواردها وتدفقاتها النقدية، ما أدى إلى اضطراب في استقرارها الاقتصادي. وبلغت ذروة هذه الأزمة في عام 1991، عندما تكبّدت الشركة خسائر تُقدَّر بنحو 36 مليون دولار. تسبب هذا الانخفاض الكبير في أرباح الشركة في تراجع حاد لسعر السهم، وأثار موجة من المخاوف بين المستثمرين والمراقبين من إمكانية انهيار أوراكل وفقدانها لمكانتها الرائدة في سوق صناعة البرمجيات.
غير أن لاري إليسون لم يستسلم لتلك التحديات، بل واجه الأزمة بروح قيادية وواقعية. فقد عمل على استقطاب مجموعة جديدة من الكفاءات والخبرات المتميزة إلى الشركة، وبدأ في تطوير خطط استراتيجية جديدة تهدف إلى إعادة هيكلة الأداء المالي والتشغيلي، وضمان الاستدامة والنمو على المدى الطويل. وقد كان لهذه التحركات أثر كبير في إنقاذ الشركة من الانهيار المحتمل، ووضعها من جديد على طريق التعافي والنجاح.
- وبالفعل، في عام 1994، استعادت أوراكل موقعها المتقدم بين الشركات الرائدة في صناعة البرمجيات، وبدأت تشهد نموًا متسارعًا في القيمة السوقية، التي واصلت الارتفاع حتى بلغت نحو 200 مليار دولار، ما عزز من مكانتها بين عمالقة التكنولوجيا في العالم.
- ولم تقتصر مسيرة إليسون المهنية على أوراكل فقط، بل شغل أيضًا منصب مدير في شركة "آبل" لأجهزة الكمبيوتر بين عامي 1997 و2002.
- وقد تم تعيينه في هذا المنصب بعد استقالة صديقه المقرب ستيف جوبز من الشركة آنذاك. إلا أن فترة إدارته هناك انتهت لاحقًا بسبب صعوبة التوفيق بين جدول أعماله الشخصي ومواعيد اجتماعات مجلس الإدارة، التي لم تكن مناسبة له.
لاري إليسون | أفضل مدير تنفيذي في 2010 ومالك أحد أكبر اليخوت في العالم
في عام 2010، حصل لاري إليسون على لقب "أفضل مدير تنفيذي" بفضل قدرته على قيادة شركة أوراكل وتحقيق نتائج مالية مذهلة، حيث نجح في رفع أرباح الشركة إلى نحو 1.84 مليار دولار، وذلك بحسب ما أوردته صحيفة "وول ستريت جورنال". وبعد طفولة قاسية وظروف نشأة صعبة، بدأ الحظ يبتسم له تدريجيًا، حيث صنفته وكالة "بلومبيرغ" في العام نفسه في المرتبة التاسعة ضمن قائمة أغنى أثرياء العالم.
- وقد كان إليسون حينها مالكًا لأحد أكبر وأفخم اليخوت في العالم، والذي يُعرف باسم "الشمس الراسخة" (Rising Sun)، ويُعد عاشر أكبر اليخوت في العالم حتى ذلك الوقت.
- يخت "الشمس الراسخة" يتميز بضخامته وفخامته، إذ يبلغ طوله حوالي 453 قدمًا (نحو 138 مترًا)، وقد تجاوزت تكلفة بنائه 200 مليون دولار أمريكي.
يتكوّن اليخت من 82 غرفة موزعة على خمسة طوابق، ويضم مجموعة مذهلة من وسائل الراحة الفاخرة مثل أحواض الجاكوزي، وصالة للألعاب الرياضية، ومنتجع صحي متكامل، وسينما مزوّدة بشاشة بلازما ضخمة. كما يحتوي على ملعب لكرة السلة، ومهبط لطائرة هليكوبتر.
ولا تقتصر ممتلكات إليسون الفاخرة على اليخت فحسب، بل يمتلك أيضًا عددًا من الطائرات، تتنوع بين الطائرات الخاصة والطائرات القتالية. وتشمل مجموعته طائرة التدريب العسكري الإيطالية "سي ماركيتي S-211"، وطائرة "ميغ 29" الروسية، التي تُعد من الطائرات المقاتلة النادرة في ملكية الأفراد.
- ويُعرف إليسون أيضًا بشغفه باقتناء السيارات الفاخرة، إلى جانب تفوقه اللافت في عالم العقارات، حيث يمتلك مجموعة واسعة من الممتلكات الفارهة.
- وكان من أبرز استثماراته العقارية شراؤه نحو 98% من جزيرة "لاناي"، وهي سادس أكبر جزيرة في ولاية هاواي. وعلى الرغم من عدم الكشف عن السعر الدقيق للصفقة، إلا أن التقديرات تشير إلى أن قيمتها كانت تتراوح بين 500 و600 مليون دولار أمريكي آنذاك.
- وعلاوة على ثروته الهائلة، يُعد إليسون أحد الموقعين على "تعهد العطاء" (The Giving Pledge)، وهي مبادرة أطلقها كل من بيل غيتس ووارن بافيت، تهدف إلى تشجيع أغنى أثرياء الولايات المتحدة على التبرع بجزء كبير من ثرواتهم للأعمال الخيرية والإنسانية.
- ولا يزال إليسون حتى اليوم المساهم الأكبر في شركة أوراكل، إذ تُقدّر حصته فيها بنحو 146 مليار دولار، ما يجعله ضمن قائمة أغنى خمسة أشخاص في العالم.