في تاريخ الإسلام، هناك شخصية بارزة تركت بصمة كبيرة في عالم المال والتجارة، حتى أصبح اسمه مرادفًا للثراء والنجاح. لكن ما يميز هذه القصة ليس فقط الثروة الضخمة التي جمعها، بل الطريقة الفريدة التي سار بها في رحلة حياته. من التحديات الكبيرة إلى الفرص الذهبية، تمكن هذا الرجل من تحويل كل عقبة إلى خطوة نحو القمة.
فما هو سر هذا النجاح؟ وكيف استطاع أن يبني إمبراطورية مالية ضخمة وسط مجتمع مليء بالتحديات؟ تابعوا معنا لتكتشفوا القصة وراء هذا الرجل الاستثنائي الذي أثبت أن العزيمة والإرادة يمكن أن تحقق ما يبدو مستحيلاً.
سر النجاح وراء ثروة عبد الرحمن بن عوف المدهشة!
في يومٍ من الأيام، قُدِّم طعامٌ شهيّ، عبارة عن لحم وخبز فاخر، لأحد الصحابة الكرام، وكان صائمًا. وكان هذا بعد أن أصبح من أغنى أغنياء عصره. فلما نظر إلى هذا الطعام الفاخر، الذي لم يكن متاحًا لكثير من المسلمين آنذاك، بكى بكاءً شديدًا، وقال: "قُتل مصعب بن عمير، وهو خير مني، ولم نجد له شيئًا نكفّنه فيه إلا بردة – أي ثوب قصير – إذا غطينا بها رأسه، بدت رجلاه، وإذا غطينا بها رجليه، بدا رأسه.
وقُتل حمزة، وهو خير مني، ولم نجد له كفناً إلا ثوبًا واحدًا. أما أنا، فقد بُسط لي في الدنيا ما بُسط، وإني لأخشى أن أكون ممن عُجّلت لهم طيباتهم في حياتهم الدنيا". ثم امتنع عن الأكل، مهابةً للفكرة، وخشيةً من أن يكون هذا الثراء والنعيم الدنيوي الذي وصل إليه، قد يكون على حساب النعيم الأخروي.
برأيكم، من يكون هذا الصحابي الجليل؟- بطلنا اليوم هو أحد أوائل من دخلوا في الإسلام، من بين أول ثمانية اعتنقوا الدعوة، وهو من العشرة المبشرين بالجنة، وأحد أقدم رجال الأعمال في التاريخ الإسلامي. إنه الصحابي الجليل عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، أحد أغنى أغنياء المسلمين.
- وقد ذكرت بعض المصادر التاريخية أن ثروته كانت ضخمة إلى حد أن تركته من الذهب فقط، حين توفي، كانت تُقسّم بالفؤوس، حتى تورّمت أيدي الرجال من كثرة ما وزعوا منها!
- فمن هو عبد الرحمن بن عوف؟ وكم ترك من ثروة؟ وما هي أهم الدروس التي يمكن أن نستفيدها من حياته كتاجر بارع وعبدٍ زاهد في الدنيا رغم نعيمها؟
من هو عبد الرحمن بن عوف؟ دروس من حياته كتاجر زاهد في الدنيا
كان سيدنا عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه من قبيلة بني زهرة، وهي قبيلة اشتهرت بالتجارة، شأنها في ذلك شأن معظم قبائل قريش. ونظرًا لأنها لم تكن من القبائل القوية، دخلت في حلف مع بني عبد مناف، واستفادت من رحلتي الشتاء والصيف، لا سيما رحلة اليمن التي كان لهم فيها نصيب كبير.
ومن خلال هذه المصالح التجارية المشتركة، استطاع عبد الرحمن بن عوف أن يكوّن ثروة كبيرة قبل الإسلام. لكن الأهم من ذلك أن هذه التجارة، وما صاحبها من أسفار ورحلات، وسّعت أفقه، وعمّقت تجاربه الحياتية، وهو ما ساعده كثيرًا في تقبل دعوة الإسلام حينما سمع بها لأول مرة. ورغم ثرائه ومكانته التجارية، لم يتردد لحظة في أن يترك كل تجارته وأمواله ويهاجر مع المسلمين عندما أمر الله تعالى بالهجرة.
وكان من القلائل الذين شاركوا في الهجرتين:- الهجرة الأولى إلى الحبشة،
- ثم الهجرة الثانية إلى المدينة المنورة،
- والتي وصل إليها معدمًا فقيرًا لا يملك حتى قوت يومه.
كيف بدأ عبد الرحمن بن عوف رحلته التجارية من الصفر بعد الهجرة؟
ما حدث بعد ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم آخى بين المهاجرين والأنصار، وكان نصيب سيدنا عبد الرحمن بن عوف أن آخى مع واحد من أغنياء الأنصار، وهو سيدنا سعد بن الربيع رضي الله عنه، فقال له سعد بكل كرم: "لي مال كثير، فخذ نصفه، ولي زوجتان، فانظر أيهما أعجبَتك أُطلقها لك لتتزوجها بعد انقضاء عدتها."
لكن عبد الرحمن بن عوف، برقي أخلاقه وزهده، شكره ودعا له بالبركة في أهله وماله، ثم قال كلمته الشهيرة التي يعرفها كثيرون: "دلني على السوق." تخيّلوا... رجل لا يملك شيئًا تقريبًا، ومع ذلك اختار أن يبدأ من الصفر، ويتجه إلى السوق ليبدأ رحلة جديدة في التجارة والعمل.
- وبالفعل، نزل إلى السوق، فباع واشترى، وعاد في نفس اليوم ومعه بعض البضاعة — زبدة وعسل.
- وخلال فترة قصيرة جدًا، بدأت آثار نجاحه وتوفيقه تظهر، حتى إنه تزوج سريعًا، وكان مهر زوجته نواةً من ذهب خالص، ثم أقام وليمةً لأهل المدينة.
كيف توسع عبد الرحمن بن عوف في تجارته ليصبح من أكبر تجار الإبل والمواد الغذائية؟
كان سيدنا عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه يتاجر أيضًا في الإبل، وهنا من المهم أن ننتبه جيدًا إلى بدايته في هذا النوع من التجارة. في البداية، لم يكن يملك ثمن ناقة واحدة، ولم يبدأ بشراء الإبل كما قد يتوقع البعض، بل بدأ من نقطة أبسط بكثير.
- بدأ بتجميع الحبال وصناعة العِقال — وهو الرباط الذي يُستخدم لتقييد رؤوس الإبل، وكان يُصنع غالبًا من الصوف.
- ثم أخذ يبيع هذه العقل للمسافرين، والتجار، ومُلاك الإبل.
- ومع مرور الوقت، جمع من هذه التجارة مبلغًا جيدًا، وهنا بدأت تظهر مهاراته رضي الله عنه في تطوير تجارته.
فبدلًا من أن يكتفي بهذا النجاح أو يظل متخصصًا في تجارة العِقال فقط، استثمر ما جمعه في شراء أول بعير يملكه، ومن هناك انطلقت تجارته في الإبل، حتى أصبح من أكبر تجار الإبل في الجزيرة العربية. وبنفس المنهج الريادي، بدأ أيضًا في تجارة الأقط — وهو نوع من اللبن المجفف — والسمن، وظل يعمل ويتوسع حتى أصبحت له تجارة ضخمة في المواد الغذائية.
- حتى ندرك حجم تجارة سيدنا عبد الرحمن بن عوف ومدى استمرارية نجاحه كتاجر بارع، سأذكر لكم مثالًا بسيطًا.
- في إحدى المرات، بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، امتلأت المدينة المنورة بغبار كثيف، حتى ظن الناس أن أمرًا خطيرًا قد حدث.
- فخرج أهل المدينة لاستطلاع ما يجري، ليكتشفوا في النهاية أن هذا الغبار ناجم عن قافلة ضخمة تخص سيدنا عبد الرحمن بن عوف، مكوّنة من 700 بعير محملة بالمواد الغذائية.
- والمذهل في الأمر — وكما هي عادته رضي الله عنه — أنه تصدق بالقافلة كلها في سبيل الله.
استثمارات عبد الرحمن بن عوف | من الذهب والعقارات إلى الأراضي والأوقاف
لم يقتصر نشاطه التجاري على الإبل والمواشي والمواد الغذائية، بل كان له أيضًا تجارة في الذهب، إلى جانب استثمارات ضخمة في العقارات. فقد امتلك خمس دور في المدينة المنورة، أطلق على ثلاثة منها اسم "القرائن"، وكانت ملاصقة لمسجد النبي صلى الله عليه وسلم، وقد دخلت هذه البيوت لاحقًا ضمن توسعة المسجد بعد وفاته.
- أما داره الأساسية، فقد أطلق عليها اسم "الدار الكبرى"، وهي التي بناها بعد هجرته إلى المدينة.
- كما كان له استثمارات كبيرة في الأراضي، منها قطعة أرض باعها لـسيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه بمبلغ 40,000 دينار، فقام بتقسيم ثمنها بين فقراء قبيلته بني زهرة، وأمهات المؤمنين زوجات النبي صلى الله عليه وسلم، رضي الله عنهن جميعًا.
- وكان لسيدنا عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه أيضًا أراضٍ زراعية تُنتج ما يكفي لقوت أهله لمدة سنة أو أكثر، بحسب ما ذكره المؤرخون. أي أنه لم يترك مجالًا حلالًا ومفيدًا يمكن أن يتاجر فيه، إلا وخاضه ونجح فيه.
عبد الرحمن بن عوف | مستثمر شامل وتنوع محفظته السر وراء ثروته الهائلة
وهذه نقطة كثيرًا ما تغيب عن أذهاننا عند الحديث عن سيرة هذا الصحابي الجليل، وهي أنه كان بمثابة مستثمر شامل، أو لنقرب المعنى أكثر: كان يُنوع محفظته الاستثمارية، وتنويع الاستثمارات يُعد من أهم أساليب تفكير الأثرياء وأكثرها فاعلية. لقد كانت تجارة عبد الرحمن بن عوف واستثماراته المتنوعة ناجحة إلى درجة أنه بعد وفاته، ترك ثروة تُقدّر بثلاثة ملايين وعشرين ألف دينار ذهبي. ونذكّر هنا أن الدينار الذي نتحدث عنه هو الدينار الذهبي البيزنطي أو "الهرقلي"، ويعادل 4.25 غرام من الذهب الخالص.
- ومن هذه التركة، أوصى بخمسين ألف دينار في سبيل الله، وأربعين ألف دينار لأهل بدر، وكان عددهم مائة، فكان نصيب كل واحد منهم أربعمائة دينار.
- بالإضافة إلى ذلك، أوصى بألف فرس في سبيل الله، وترك بعده ألف بعير، وثلاثة آلاف شاة، وكمية كبيرة من الذهب.
- لقد كان عبد الرحمن بن عوف دائم التجارة، دائم الاستثمار، ودائم التصدق، وكان الله يبارك له في ماله، حتى إن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يقولون: "كل أهل المدينة شركاء لعبد الرحمن بن عوف في ماله، ثلث يقرضهم، وثلث يقضي عنهم ديونهم، وثلث يصلهم ويمنحهم."
- ومن كثرة عطائه وكرمه، لا نبالغ إذا قلنا إن المال الذي أنفقه عبد الرحمن في حياته، يفوق بكثير ما تركه بعد وفاته.
وكان ينفق في كل الأحوال، حتى رُوي عنه أنه تصدق بنصف ماله (حوالي أربعة آلاف دينار) من ثروة كانت تقدر بثمانية آلاف، ثم تصدق بأربعين ألفًا، ثم أربعين ألفًا أخرى، ثم بخمسمائة فرس في سبيل الله، ثم بألف وخمسمائة راحلة، ناهيك عن القوافل والبساتين والبيوت التي وهبها كلها لوجه الله تعالى.
قاعدة عبد الرحمن بن عوف الذهبية في التجارة | سر نجاحه وكسر احتكار اليهود للاقتصاد
كان لسيدنا عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قاعدة ذهبية في التجارة والاستثمار، ويُستحسن أن يتعلمها كل من يعمل في هذا المجال. وقد لخّص هذه القاعدة بنفسه حين قال: "ما بعتُ معيبا، ولا بعتُ دَينًا، ولا استقللتُ ربحًا." يعني بذلك أنه لم يبع يومًا بضاعة فيها عيب أو غش، ولم يبع بالدين (أي البيع الآجل) لفترات طويلة.
- لأنه يدرك أن البيع بالدين فيه مخاطرة كبيرة وقد يترتب عليه خسارة، فضلًا عن أنه في كثير من الأحيان يُرافقه زيادة في السعر تُعد من الربا.
- كما أنه لم يكن يستصغر أي ربح يأتيه، بل كان يرضى بالقليل، وهذه كانت جزءًا من سياسته في تدوير المال بسرعة—لا يغش، لا يبيع بالدَّين، ويقبل بالربح القليل ليبيع سريعًا ويعيد استثمار ماله.
ومن النقاط المهمة التي تستحق التركيز، أن سيدنا عبد الرحمن رضي الله عنه كان من أبرز الأسباب في كسر احتكار اليهود للاقتصاد والتجارة في المدينة. فقد استطاع بخبرته التجارية وعلاقاته الواسعة أن يوفّر بدائل حقيقية لبضائعهم، مستوردًا سلعًا من الشام واليمن ومصر بأسعار مناسبة وأرباح قليلة.
- هذا الأمر ساهم—إلى جانب عوامل أخرى—في تحقيق الاستقرار الاقتصادي والسياسي للدولة الإسلامية الناشئة.
- كانت هذه جولة سريعة في الحياة التجارية والاقتصادية لأحد أعظم رجال الأعمال في صدر الإسلام، وأحد أغنى أغنياء الصحابة رضي الله عنهم.